تعديل

Flag Counter

السبت، 8 سبتمبر 2018

                                                                       

 بسم الله الرحمن الرحيم في هذا الجزء الجديد من المدونة احب ان اقدم لكم قصة قصيرة للكاتب عبد المجيد بن جلون اتمنى لكم قراءة ممتعة

غريب


ذات ليلة حالكة من ليالي الشتاء طرق الباب رجل غريب,بعد أن تقاذفته العاصفة الهوجاء طول النهار,ولما فتح الباب سقط الرجل إلى الأرض متداعيا فحملوه إلى داخل المنزل.
وتبادل اهل البيت النظرات,هذا رجل غريب لم يرو مثله من قبل في هذه الربوع,ولكن حيرتهم لم تطل فقد أسرعو إلى الغريب يدفئونه ويطعمونه ويغيرون ملابسه المبتلة الموحلة بأخرى ناصعة بيضاء فضفاضة,وسقط كتاب قديم من ثياب الرجل الغريب لم يسترع انتباه أحد.
كانت الغرفة المتواضعة دفيئة ساكنة مثل عش قرير في مأمن من عويل الريح الذي كان يسمع في الخارج شديدا متواصلا,كأنه صراخ السموات وهي تشرف من عليائها على المستقبل القريب.كانت الريح تصرخ "اقرأو ذلك الكتاب"ولكن أحدا لم يسمعها.


*******

خرج الرجل الى الربوع وقد برزت الشمس وصفت السماء وتنفست الأرض ففاح الخصب وأشرق الجمال,وتنقلت عيناه هنا وهناك 
فقال في نفسه:"هذه الأرض التي وعدناها نحن الفرنسيون".
وأبرقت عيناه وهو يرنو إلى الخضرة وإلى الخصب ,على المزارعين.كان صاحب الارض كريما,فقال له انني متعطل,وكان هو فنانا في تمثيل الذل والمسكنة.
سوف يعيش الغريب اذن في هذه المزرعة منذ الآن فلغته العربية تتحسن يوما بعد يوم, وهو يتناول كل ما حوله بعين فاحصة دارسة مستوعبة,وقد ابتدأ أمره متواضعا,ولكنه مع مرور الأيام استطاع أن يسترعي الأنظار بنشاطه وذكائه,كان يتزلف إلى صاحب الارض بالجد في العمل,وينصحه,ويشرح بعض الاساليب الزراعية الحديثة إلى أن أعجب وأحبه وبدأ يعامله معاملة الصديق والقريب.
وهكذا احتل مكانة بين أولاد العم عبد السلام في بيته وقلبه وكان هذا الرجل مسنا,قضى حياته في المزرعة يشرف على أرزاق الناس فيها,إذكانوا يعيشون في  نوع من الاشتراكية معروف بين القبائل في مراكش,وكان له ولدان وبنت:محمد في سن العشرين.وأحمد في سن العاشرة وفاطمة في سن الرابعة عشر.وكان العم عبد السلام يفحص رجاله  ويعجم عودهم ليختار من بينهم رجلا قويا مخلصا يخلفه بعد وفاته.وأدرك الغريب-اسمه أندريه-ذلك, فعمل بكل ماأوتي من لباقة وحذق لللاستيلاء على قلب الرجل واولاده وأهالي المزرعة فصلى معهم في المسجد,وشاركهم لباسهم وطعامهم,واستطاع أخيرا ان يطمس معالم حياته الماضية ليصبح شخصا جديدا.
كان مثلهم في كل شئ ولكنه كان أكثر منهم حيلة وأوسع فكرا,ولذلك برز بينهم,وأكبر الناس ذكاءه,فلما تقدمت الايام بدأت ومضت الحياة تنطفئ في العم عبد السلام رويدا رويدا,وجاء اليوم المحتوم,وبكى أهل المزرعة جميعا وهم يمشون خلف نعش الرجل الذي عاش لهم بالقلب والفكر والجسم,الرجل الذي اتاهم الحياة مشرقة ضاحكة فعاش في ظل رحمته الايتام والايامى والمتشردون,مشو خلف نعشه يبكون فيه جدهم واباهم واخاهم وصديقهم,كما لو كانوا يعرفون أنهم يمشون خلف نعش الماضي.

*******

ساور أهل المزارع القلق بعد أن وصلتهم الأخبار من المدن بالحرب والإحتلال,ولكن اهل المزرعة كانوا أقل اضطرابا لهذه الانباء لأنهم كانوا يؤمنون بزعيمهم الجديد.
خلف أندريه-ودعنا لانذكر اسمه المنتحل ما دمنا نعرف اسمه الحقيقي-العم عبد السلام في المزرعة والبيت فلم يلاحظ الناس أي تغيير,وحمدوا الله الذي أرسل إليهم هذا الغريب ليحافظ على مستوى حياتهم.
ولكنهم في نفس الوقت لاحظوا شيئا طفيفا لم تكن له اية أهمية,وهو انه كان يتغيب عن المزرعة من ان لآخر أياما معدودات ربما بلغت الأربعة,فكانوا يتساءلون عن سبب تغيبه والمكان الذي يذهب إليه,وكيف لا يتساءلون وهم لا يعرفون عن رئيسهم السابق انه ترك المزرعة مرة واحدة.
كان مجرد تساؤل في أول الأمر,ثم بدأوا يلاحظون سلسلة من الملاحظات لم يعرفوا لها وجودا من قبل,وذلك أن حظوظ الناس بدأت تختلف,فهو يقرب بعضهم وان لم يكن يسئ الى الاخرين,وقد أصبح يلبس حذاء غريبا كما تغيرت ملابسه الداخلية وعرا ذهابه الى المسجد بعض الفتور.ولكن أسقط في يد المزارعين حينما رأوا جماعة من الفرنسيين يزورون مزرعتهم,وبدا عليهم التذمر واضحا,وتحادث أندريه في المساء مع محمد وفاطمة وأحمد,فاعتذر بانه يتعلم منهم كيف يحسن أحوال المزرعة.
وبعد أن أحدث ذلك اثره في النفوس ,تقدم اليه احدهم وهو خارج من المنزل في الصباح وقال له:"ان أهل المزرعة لا يريدون أن يروا مثل هؤلاء الناس في مزرعتهم مرة أخرى,لأن هِؤلاء هم الذين جلبوا الدمار الى المدن ,فيجب أن لاتفتح أمامهم المزارع أيضا"
فصعد الدم الى رأس أندريه وصمم أن يقتل مثل هذا التفكير في مهده,قبل أن يستفحل امره,الم يفاخر رؤساءه في مدينة الرباط,بأنه استطاع أن يقطع الطريق على مثل هذا التفكير في مزرعته؟ فصاح بالرجل:
"إرجع إليهم وقل لهم إن هذه مشيئة رئيسهم,خليفة العم عبد السلام ووارثه."
-ولكن العم عبد السلام لم يكن يعامل امثال هؤلاء الانجاس؟.
هنا أفلت الزمام من يد أندريه,وصعد الى راسه دم فرنسي حار,فانقض عليه وشده من صدره وهو يرجه:
"لاتتكلم هكذا مرة أخرى وإلاحطمت رأسك أيها القذر,أفهمت؟"ثم أطلقه.
وسرى الخبر في كل الارجاء,فعاتبه الناس أثناء العمل في المزرعة كما يعاتب الصديق صديقه,لأنهم لم يكونوا يتصورون معنى للرئاسة عن الصداقة,وعاتبه أولاد العم عبد السلام في البيت,وبدأ اندريه يشعر كأن هذا العقاب يطارده في كل مكان,وتعب من دور المصانعة الذي مثله أكثر من خمس سنوات,وبدأ ينتبه إلى وجود همسات مريبة,لذلك صمم على التمتع بسلطته الحقيقية مادام أنه لابد من ضياع هيبته بينهم.

*******

هذه كتيبة من الخيل مقبلة نحو المزرعة يقودها جنود مدججون بالسلاح واندريه في طليعتهم.ولما وصلوها اجتمع حولهم المزارعون وعيونهم تكاد تقفز من رؤوسهم,وترجل بينهم أندريه وهو يقول:"اذهبوا الى اعمالكم,فسوف اعلمكم كيف تخضعون لي كما كمنت تخضعون للعم عبد السلام,ان ماحدث ايها الناس هو أنكم فسدتم,ولذلك فأنتم في حاجة إلى معاملة جديدة,والآن انطلقوا غلى اعمالكم".
قامت بعد بضعة أسابيع بناية فخمة في المزرعة,هي بناية الحاكم بأمره أندريه,ذلك الرجل الخدعة الذي أصبح بمعاونة رؤسائه المالك المطلق لهذه الأراضي الواسعة,فهي له بمن فيها وما فيها.
وكانت كل عائلة تملك قطيعا صغيرا من الأبقار أو الأغنام,فعول أندريه على أن تكون تلك أيضا ملكا مشاعا.
ضاع في المزرعة جمال الحياة,الحياة البسيطة المشبعة بالرفق والرحمة والمحبة,وضاعت الأرض الجميلة الخصبة ,الأرض التي كانت تغذي اجسامهم وأرواحهم معا,وضاعت الابقار والاغنام التي كانت افرادا في تلك العائلات,اه لقد انكشفت الايام عن حقيقة مخيفة,هي انهم اصبحوا عبيدا.
كانت لمحمد بقرة جميلة اراد ان يحتفظ بها,ولكن أندريه أبى عليه ذلك,فلما قاومه القى عليه القبض,كذلك فعل مع أخيه حينما أراد الاحتفاظ بمعزة ظريفة صغيرة وادا كان هذا ما لقيه ابن العم عبد السلام رحمه لله فماذا لقي الأفراد الآخرون؟
خرج أندريه من قريته الفقيرة في جنوب فرنسا فقيرا معدما خرج ليمتلك الحياة,وقد امتلك من الحياة الآن المال والجاه والسلطة,ولكن هذه ليست كل شئ لقد أشبع غرائزه الجشعة كلها ,الاغريزة واحدة,فلما أسرعت فاطمة بنت عبد السلام الى القصر لتسأله الافراج عن أخويها,استيقظت في نفسه تلك الغريزة,أشد ما تكون جوعا وجشعا.
ارتمت الفتاة البرئة لتسأله الصفح عن أخويها وتعتذر له بطيشهما,فقد كانت تدافع عن أدريه دائما أمامهما,وكانت ترى في الدفاع عنه دفاعا عن ابيها الذي استأمنه.واحست به يحتضنها ويداعبها ويمنيها,وكان كلامه مضطربا,ثم ضاع صوابه فضمها الى صدره في قوة مجنونة ولكنها تملصت منه ووقفت بعيدا فأخرج هو مسدسه في فورة عصبية وأطلق رصاصة على المصباح فتناثر في الهواء ثم رمى بالمسدس فوق المكتب وسعى اليها.
-أرايت؟سأقتلك هكذا أيتها الشرسة اذا استمررت تتصرفين هكذا.
-فبرقت عيناها:"استدعهما الى هنا فلا يسعني إلا أن أكون شرسة معك وأخواي أسيراك".
فنظر اليها مليا كأنه يستطلع أساريرها ثم هز كتفيه هازئا وقصد نحو الباب تاركا الفتاة تتميز حنقا وغيظا.
دخل الأخوان ومن خلفهما اندره وهو يقول"خذي أخويك وعلميهما كيف يطاع الحكام".
واحتدم الغيظ في نفس فاطمة,فانتقلت نظراتها في ارجاء الغرفة دون وعي,وفجأة وقعت عيناها البارقتان على المسدس فوق المكتب فقفزت إليه في سرعة البرق,حركة وتفكيرا,ثم صوبته إلى صدر اندريه وهي تصيح:
"مكانك أيها الوغد,اقفل الباب يا أحمد,واوثقه انت يا محمد.يا لثارات المزارعين والرعاة,أتذكر كيف جئتنا.شخصا تافها قد احاطت به الاسمال والاوحال,ترتعش في يد العاصفة ضعفا وخورا؟واليوم تكشف لنا القناع عن وجهك,فإذا أنت شيطان رجيم,انكم تمتلكون السلطة في هذه المزرعة والمزارع القريبة والبعيدة التي تجاورنا ولكنكم لن تمتلكوا قلوبنا,ومادمت عاجزا عن انتزاع الاحتقار من صدري فأنت ما زلت كما جئتنا اول يوم خائرا وضعيفا.ها أنت ذا بين يدي –أنا الفتاة الفلاحة الساذجة-ترتعش في فزع ورعب.بعلمك وسلطانك لأن السلاح اليوم في يدي أنا,لقد نزعته منك أيها الجبار فتكشفت عن انسان ضعيف يتخاذل أمام فتاة ضعيفة,لأن في يد الفتاة الضعيفة قطعة من حديد.مكانك وإلا مزقتك".
فتراجع عن الخطوة التي انتوى أن يخطوها.وهو يقول بين أسنانه:"احذري ايتها الشقية".
وصاح أحد الأخوين وقد امتلكه الخوف"لاتقتليه لاتقتليه".
فالتفتت إليه دون أن تحول فوهة المسدس عن صدر اندريه"ماذا؟لااقتله؟اغتصب أرضنا وحريتنا وماشيتنا وراحتنا.اغتصب هذه الأرض التي ملكها اباؤنا الافا من السنين.ثم جاءني منذ لحظة يريد أن يخدش طهارتي".
ولم تسمع اللفظة الأخيرة فقد صحبتها طلقة المسدس وأعقبتها صرخة اندريه الغريب يتخبط في دمائه....

*******

في صباح اليوم التالي عثر الخفراء في حفرة بعيدة عن المزرعة على جثة معفرة هي جثة  أندريه .لقد تسلل إلى المزرعة في ظلمة الليل غريبا تسوقه عاصفة هوجاء ثم خرج منها في ظلمة الليل غريبا يسوقه الموت وعثروا في جيبه على ذلك الكتاب الذي حمله معه إلى المزرعة يوم أقبل إليها فكان عنوانه(كيف تغتني في مراكش)؟إنه عنوان أغرى أمة وأغرى رجلا.
فهل تكون هذه أيضا قصة أمة كما كانت قصة رجل؟

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More