تعديل

Flag Counter

الاثنين، 10 سبتمبر 2018

الأسيرة



 بسم الله الرحمن الرحيم في هذا الجزء الجديد من المدونة احب ان اقدم لكم قصة قصيرة للكاتب عبد المجيد بن جلون اتمنى لكم قراءة ممتعة
*********

جلس في ظلمة الليل يرنو الى ألسنة اللهب التي كانت تعكس على وجهه معنى رهيبا ,ولقد كان هناك تجاوب شديد بين هذه النار ونار أخرى كانت تتراقص ألسنتها في جوفه.كان يشعر وهو محاط في أعماق الغابة بالصمت والحزن والظلام كما لوكانت كارثة عظمى قد نزلت بهذا الجزء المجهول من العالم,الذي صب عليه الهة المادة نقمتهم و غضبهم,ولكن صاحبنا لم يكن يفكر في شئ من هذا وانما كان يفكر في أخيه الذي راه بعيني راسه يتخبط في دمائه تحت طلقات الرصاص التي أفرغها في رأسه وصدره قائد اسباني غليظ,فترك المدينة هائما على وجهه الى أن استقر به المقام هنا,فلما أدركه الليل اوقد هذه النارليبادلها الحديث في صمت الغابة وظلامها البهيم.

واي حديث؟ حديث ذكريات الصبي يوم كان هو و أخوه يِؤنسان البيت بلعبها وضجيجهما,وماكان يضمره  من الحب لهذا الأخ
الحنون الكريم,والحزن للكارثة التي حلت بأبيه وأمه والملل من الحياة بعد أن أصبح فيها وحيدا,والغضب لتلك الصورة البشعة التي لقي عليها اخوه حتفه القاسي,أيقتل ذلك الأخ الوديع الرحيم كما تقتل الكلاب الشريرة على قارعة الطريق؟وهكذا تضارب في نفسه الحزن والملل والغضب,وثارت هواجسه الى أن أصبحت ألسنة اللهب عاجزة عن متابعةالحديث.
كان أخوه جنديا أسره الاسبانيون في احدى الوقائع وأرغموه على الالتحاق بخدمة  ضابط برتبة جنرال وكان هذا الضابط خير وارث لتلك الاحقاد التاريخية الصبيانية التي يضمرها الاسبانيون للمراكشيين,فتفنن في التنكيل به وفي اذلاله.كان يرغمه على أن يلبس ثياب النساء,ويحمل القاذورات بيده,وأرسل الأسير ذات يوم يطلب زيارة أخيه ليستشيره,وبينما كان الاثنان يتجادلان باغتهما الضابط وارسل سيلا من السباب في وجهيهما.ثار الأسير ثورة جامحة يائسة فأجابه الجنرال بثورة مماثلة ولكن بواسطة مسدسه.
برقت عينا محمود فجأة وهو يرنو الى النار ,وأحس بصوت يهتف به من أعماق نفسه,"الى جيش عبد الكريم"هذا هو النداء الذي طغى عليه,وكان قويا غامرا حتى خيل اليه أنه يسمع صداه يتردد في أنحاء الغابة مدويا مجلجلا.

*************

                                                                             لم تصرفه المعامع التي خاضها في الجيش المراكشي الباسل عن التفكير في الجنرال السفاك,بالرغم من توالي الانتصارات وقد طال الزمن,ولذلك عزم على زيارته في غارة مباغتة.
كانت العادة ان تفاجئ مدينة تطوان من ان لآخر عصابة مسلحة قوية لتحطيم المراكز الحيوية ومغادرتها قبل أن ينتبه الإسبانيون,ولا سبيل الى زيارة الجنرال الا أثناء غارة من هذه الغارات.
دخل المدينة على حين غفلة من حراسها اثناء الليل في جماعة من الجنود ولم تكن هذه مهمة صعبة,لانه لم يكن من السهل تمييز أنصار عبد الكريم المحاربين,ودخل حديقة المنزل بعد ان خدع الحارس,ثم تسلل الى الداخل فوجد الغرف كلها ساكنة مظلمة الا واحدة فتقدم اليها وأخذ ينصت فاذا بصوت غليظ يقول مخاطبا شخصا اخر متقطعا منهوكا كانه الحشرجة:
"اسمعي يابنتي؟لقد دوخنا هؤلاء الاوغاد,ابناء الجبال وقطاع الطرق,ان المسدس الذي صرعت به  عشرات منهم لم يعد يشفي لي غليلا؛هؤلاء الصعاليك الذين جللو بنات اسبانيا الجميلات بسوادالحداد,كما فعلوا حينما نازلونا من قبل,نعم؟سوف تتخطفهم لعنة اسبانيا مهما صمدوا للقتال,وسوف تشرق الشمس ذات يوم ومراكش كلها راكعة عند قدمي اسبانيا تكفر بذلها ومهانتها عن هذه الدماء الزكية التي سفكتها .اننا نكسب الان نقطة ارتكاز في الشمال للزحف على هذه البلاد كلها.ولسنا نفعل ذلك لاستثمارها بقدر مانفعله للقضاء عليها واخذ ثارنا القديم منها.اه يابنتي؟مااريده هو ان اضرم النار بيدي في شخص واحد منهم على الاقل قبل أن اموت"  .
هنا فتح الباب بضربة قوية من رجل محمود,فاذا بالجنرال المخمور أمام الخطر الداهم,فقام مترنحا,ولكن رصاص المسدس أرجعه إلى مقعده,وصحب ذلك صراخ الفتاة.فوثب إليها محمود ليخنق صوتها.وخشي أن تفضحه اذا هو تركها,فسحبها من يدها,فلما اعترضه الحارس ارداه.ثم قفز بها الى ظهر الفرس,وانطلق في شوارع المدينة في جراة وبراعة,بحيث لم يفطن أحد لما حدث إلا في صباح اليوم التالي.
**************
أقامت ماريا مع محمود في كوخه قريبا من خطوط النار كأنها الهرة الشرسة.ولكنها لم تجرؤ على الهروب خوفا ان يمزقها الرصاص.كان يرجع إليها كل مساء لتنغص عليه الليل بالبكاء والعويل.ولم يكن يقيم لها وزنا في أول الامر,ولكن صورتها الجميلة مالبثت أن بدأت تتسرب لى نفسه قليلا قليلا,إلى أن هيمنت على فكره حتى في خطوط النار.
ومرت شهور,فإذا بها هي أيضا تحس نحوه بشعور مبهم لم يكن من السهل تجاهله,ولكنه قاتل أبيها:
-إنك قاتل أبي يامحمود,إنك سفاح مروع,فكيف يعرف الحب إلى قلبك سبيلا؟
-ولكن اباك هو البادئ,الم يقتل هو أيضا اخي؟وليس بإنسان من لم ياخذ  بثأره.-وإذن فلا سبيل إلى ماترمي إليه,لقد فصلت بيننا الايام يا محمود.
كان جسمها يطفح بالانوثة والنعومة والجمال,أما هو فكان مثالا للرجولة والمتانة والقوة,وكان مع ذلك رقيق العاطفة,فلم يكن ليخطئ الاخلاص الذي يغمر قلبه,لأنها كانت نافذة البصيرة-ومرت الأيام فاذا بكل واحد يهيم حبا بالاخر بعد أن لم يعد هناك مجال للمكابرة وتجاهل ما يخفق به القلب,هكذا تلاشت الأحقاد وانمحت معالم الدماء في حياتيهما.
ولكن ماريا ضاقت ذرعا بالحياة في هذا الكوخ الحقير وبهذا الشذوذ الذي باتت فيه حياتها,انها تعرف انه أنقذ حياتها في اليوم الذي أراق فيه دم أبيها,وقد فكرت في المكر به وقتله خيانة,ولكنها بعد أن أحكمت المؤامرة خانتها عواطفها,وكان محمود يعرف أن في استطاعتها أن تقتله,فقد كان ينام ملء جفونه والى جانبه أسلحة مختلفة,ولكنه مع ذلك لم يفكر في حماية نفسه منها.
-لنتزوج يا ماريا.
محمود؟ارجوك لقد قتلت أبي كما قتل أبي أخاك ولن نستطيع أن نتجاهل هذه الحقيقة الدامية مهما عشنا سعيدين,إنك وديع ورحيم بالرغم من الدماء التي سفكتها,وإنني استغرب كيف يمكن أن يكون مثلك مراكشيا,فأرجعني إلى قومي يا محمود,لست أستطيع أن أعيش هنا أكثر مما فعلت.
كانت تبكي وتنتحب في حزن عميق,وقد عصف بقلبها الحب والالم,ولكن محمود كان عاجزا عن تنفيذ رغبتها,وتقدمت الأيام فإذا بماريا تشحب,وإذا بها عاجزة عن مقاومة هذه التيارات المتضاربة في نفسها,فعرتها الشراسة من جديدوأرغمه ذلك على أن ينزل عند رايها بعد أن تيقن بأن كل محاولاته قد ضاعت سدى.
وبكيا وهما يستعدان للفراق وسارا في الطريق صامتين حزينين,ولكنهما معا كانا مؤمنين بان هذا هو الحل الوحيد وتسلل بها داخل خطوط النار معرضا حياته للخطر,ثم اقترب بها من المدينة معرضا نفسه لخطر اشد,وهناك في منحدر قريب منها وقف ليودعها فإذا بهما ينتحبان والألم يمزق نفسيهما,وفجأة قفزت إليه في حرارة وشدة ثم انطلقت نحو المدينة مهرولة الى أن غابت عنه وهو واقف يرنو إليها بعينين دامعتين.
انتهت الحرب الان وماريا تزحف نحو الأربعين من عمرها,وقد عرفت رجالا كثيرين,ولكن أحدا منهم لم يشغل من نفسها مكانة قاتل أبيها,ولذلك فإنها فضلت أن تعيش عذراء,بيد أن الأمل لم يمت في نفسها أبدا,بل ماتزال الى الآن تجوب بوادي مراكش ومدنها باحثة عن محمود وهي تزور مكان الكوخ القديم الذي عاشت فيه مع حبيبها ثلاثة شهور هي أسعد أيامها,بالرغم من أنها كانت أسيرة,وبالرغم من الخطر الذي كانت محفوفة به.وإذا كانت تذكر اباها والصورة التي لقي عليه حتفه,فهي تعرف أن المقادير         -مقادير الغزو والفتح- هي التي كتبت هذا الفصل من حياتها بقطع النضر عن أبيها ومحمود.
وهي بعد ذلك ماتزال أسيرة,ولكن الذي أسرها هذه المرة هي الحوادث والأيام.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More